مراجعة رواية خبز على طاولة الخال ميلاد:

عنوان الرواية: خبز على طاولة الخال ميلاد.

الكاتب: محمد النعاس.

دار النشر: دار رشم للنشر والتوزيع.

عدد الصفحات: 343.

التقييم: 2.8.

غالبا ما تثير الروايات الفائزة بالجوائز الدولية فضول القراء، فيهرعون لاقتنائها، بغية مواكبة الحدث الأدبي، وكذا الوقوف على الآثار الإبداعية الفائزة وما يميزها عن غيرها من الأعمال الروائية، من حيث الحبكة واللغة، ومالذي يجعلها على عرش الأكثر طلبا وقراءة. 

هذا ما حدث لي، لم أتردد في وضعها ضمن قائمة خياراتي، كان ذلك بعد بلوغها القائمة القصيرة من جائزة البوكر، وما إن أتيحت لي الفرصة حتى كانت ضمن ما اقتنيته من معرض الكتاب الدولي، وشرعت في قراءتها على الفور.

حسنا، قبل البدء في مراجعتي للعمل الروائي، سأشير إلى أن قراءتي للرواية حتما ستحمل بعض الرؤى الذاتية، لا أعتقد أن ثمة نقد محرر تماما من ذلك، لكن سأسعى قدر الإمكان إلى التفصيل في مراجعتي بقدر من الموضوعية، وتبقى هذه المراجعة تحتمل الصواب كما الخطأ، والأهم أرجوها محملة بالأسئلة المنتجة،التي تدفعكم للقراءة وللرد علي بالكتابة !

بداية، سأروي بإيجاز وعلى عجالة، انطباعي الأولي حول الرواية، قبل التفصيل في جزيئات العمل. 

استغرق مني العمل ثلاثة أيام، قبل أن أفرغ من قراءتها، أظنها مدة قصيرة، وهذا إن دلّ على شيء فإنه يعكس فضولي تجاه العمل، وربما استمتاعا به أيضا، لكن تجدر المصارحة في أني تجاوزت بعض الصفحات بعد أن وجدتها مملة ولا تحمل أي حدث مغاير ومهم ولم أشعر سوى أنها مجرد "تمطيط " للعمل ! 

هل هي راوية تبقى في الذاكرة؟! هل هو عمل يخلّد نفسه؟  هل ينتمي للروايات اللائي أصبنني بالدهشة؟

لا أعتقد، برغم أنها رواية أثارت في جملة من المشاعر كما الأفكار، لكنها لم تكن عملا يصعب تجاوزه، لم تكن رواية متعبة أو مقلقة.

هذا كان انطباعي العابر، والسريع، أما إن كنتم ترغبون في مراجعتي الكاملة، تابعوا قراءة هذا المقال، ولا تتوانوا عن مشاركتنا قراءتكم للرواية.

قراءة في تفاصيل العمل: 

الغلاف: بسيط، بورتريه كرتوني يصور "الخال ميلاد" وخبزه، جاء الغلاف ليشبه العنوان بعيدا عن الترميز المبالغ فيه، ودون لجوء للتعقيد. 

هذا ما جعل الغلاف طعماً ذكيا، لأن الخفّة تمهد الطريق للفضول أحيانا، ففي الوقت الذي أضحى الكتاب يكثرون من التعقيد والتجريد في اختيار الغلاف، اختار الكاتب الليبي رسما معبرا وبسيطا. 

أول ما أثارني في الغلاف، ملامح ميلاد، أي نعم، لقد توقعت دون صعوبة أن من في الغلاف هو المعني بالحبكة، وبالبطولة، ملامحه توحي باحساس عتيق، انتماء لرائحة زمنية، تصفيفة شعره، قميصه، نظرته الهاربة، ما بين البؤس والحيرة. 

لا أرغب في التفلسف! 

لكن انطباع ما اعتراني بعد رؤيتي للغلاف، أن ثمة سرد هاديء سيُروى، لكنه مهم. الخبز في يد ميلاد، إلى ما قد يرمز؟ هذا ما سألت نفسي به، تشبثه به، تعلقه بالخبز في يده إلى ما قد يوحي؟ ميلان جسده؟ تطلعاته اللامرئية، والتي جسدها المصمم ببراعة.

دون الدخول في قراءات سيميائية جادّة ومعقدة، أرغب في الإشارة للونين الأصفر والبرتقالي للغلاف. 

لقد أضافا حدّة متوارية، إقداما خجولا، ثورة متوجسة، هل هو الإحساس العتيق نفسه؟ هل اللونين اختيرا بعناية لإبداء صوت غير مسموع؟ هل كان لون حياد، أم بقعة ضوء، أم تسليط ضوء على المهمش. هذا ما أوحى لي به التدرج الذي اتسم به الغلاف. لقد راق لي، ورأيته متكاملا مدروسا بعناية خاصة ما تعلق بتفاصيله البسيطة.

العنوان: خبز على طاولة الخال ميلاد، عنوان طويل، ثابت، بسيط وخبري، لكنه غير مألوف ! حيث جاء سرديا ملغما بمعاني خفية، تستفز فضول القاريء، وتنبش رغبته في الكتابة ! - على حد قول رولان بارت -.

بِمَ يُوحي الخبز؟ 

لم ترمز الطاولة؟ 

هل يحيل الخبز إلى "العيش" والطاولة إلى "المجتمع"؟ إلى النقاش والجدل؟ أم للعنوان دلالات أخرى؟ أم فقط جاء عنونة مباشرة دون مراوغات مجازية؟

مرة أخرى، يوفق الكاتب (محمد النعاس) في اختيار عتبات نصه الروائي. 

أحترم العتبات، عتبات العمل الأدبي مفاتيحه المقدسة، إنهم الموقف الذي تتريث فيه قبل الغوص في القراءة. فإما تفتح شهيتك وإما تبعث على كسلك. تتأملها، تفكّ علاقاتها، ثم تقترح تأويلا مبدئيا للنص، العتبات أول ما يمهد لرسم الآفاق، آفاق التوقع. 

بالنسبة لرواية خبز على طاولة الخال ميلاد، استطاع كلا من العنوان والغلاف أن يثيرا في الفضول، وأيضا بعض التوقعات. 

فهل لبى العمل هذه التوقعات؟ أم انزاح عنها؟

الحبكة الدرامية:

تدور أحداث الرواية حول شاب يدعى ميلاد، أخ وحيد على بنات، يعيش تحت ضغط مجتمع يطالبه بأن يكون رجُلاً! لكن كيف ذلك؟ 

لطالما عانى ميلاد من شخصية "طرية"! إن صح القول، أو لنقل هشة، نتاج تربيته بين البنات. فكان والده صاحب البيتزيريا يريد منه أن يكون رجلا شديدا، لكنه لم يفهم كيف لرجل أن يكون شديدا؟ هو يفعل الصواب، أو ما يظنه صوابا، لكنه لا يعجب أحدا. 

تفاقم الوضع لينتقل لمجتمع بأسره، يرى فيه رجلا غير قادر على التحكم في أهل بيته، وهو أمر معيب لا يغتفر.

حتى حين التحق بالجيش، فشل في أن يتحلى بالصلابة التي طالبه المجتمع الليبي بها. 

ميلاد ورث عن والده حرفة صناعة الخبز، حرفة ساعدته على الهروب نحو أفكاره، بعيدا عن كل هذه الأفكار. كان ينغمس في العجين كلما شعر بالقلق، يعود نحو الخميرة كلما هزمته خواطره.

بعد زواجه، مجددا يجد ميلاد نفسه يحاكم على إثر قراراته، لقد قرر وزوجته زينب قرارا غير مألوف، أن تعمل هي خارجا، في حين يهتم هو بشؤون المنزل، من طبخ وغسيل وترتيب الفوضى، وإعداد الفطور الصباحي لزوجته. 

لم يمرّ هذا القرار مرورا عاديا على المجتمع المحيط بميلاد وزوجته، هذا ما أفشى له به العبسي، ابن عمه.

العبسي، شخص ماجن، رجل شديد ! كم يرغب في تلقين ميلاد " الرجولة"، هو يخبره بضرورة منع ابنة اخته من ارتداء البنطال، منع زينب من ركوب سيارة مع رجل غريب، من ضرورة إعادة التحكم زمام الأمور، أن يعيدها إلى نصابها، ويكون رجلا كما يقول المجتمع. 

لكن ميلاد، في كل مرة يجد نفسه تائها، بين ما يؤمن به، بين ما هو عليه، وبين وسوسات العبسي.

بين سرد ماضوي، وبوح من الحاضر، جاءت أحداث الرواية لتصور واقع المجتمع الليبي، والعربي عموما، ونظرته للعلاقة بين الرجل والمرأة، وفق مراسيم العادات و التقاليد.

خلال الرواية، يروي النعاس تفاصيل الحياة بين ميلاد وزينب، وكيف أنها كانت هادئة ومستكينة، قبل أن تتحول رأسا على عقب، بعد تحريض من العبسي وتعليقاته، التوتر الذي طال العلاقة، الشكوك، هل كان ميلاد يشك في زينب، أم يشك في مدى صدق الأقاويل حوله رجولته، رحلة البحث تلك قادته لتتبع زينب ورصد تحركاتها مع مديرها في العمل. برغم انسيابية الأحداث، إلا أن الرواية انتهت نهاية غير متوقعة، وحين أقول لا متوقعة هنا، فلا أعني الدهشة، بقدر ما أحيل إلى نهاية غير منطقية، لا تتشابه  مع تفاصيل الحبكة وملامح الشخصيات، ردات الفعل، التحولات كلها جاءت شاذة غير قابلة للتصديق، ويرجع ذلك الى عجز الكاتب عن رسم تطورات الشخصية على مدار الرواية، وإهماله للعديد من التفاصيل خاصة ما تعلق بأبعاد الشخصيات النفسية.

تجدر الإشارة إلى أن الرواية تم اسقاطها عن مثل شعبي ليبي (عيلة وخالها ميلاد) يشير إلى الرجل الذي لا يقدر على السيطرة على عائلته والتحكم فيها. 

جاءت الرواية كاملة على لسان البطل ميلاد، فلم تحمل الكثير من الأبعاد والرؤى، وكادت تشبه مونولوج كاد يبدو سردا شخصيا، فهل يعقل أن للكاتب علاقة بميلاد؟ تهمة تلازم كل كاتب، وهذا ما أظنه فيما يتعلق بمحمد النعاس أيضا ! 

القضايا التي أثارتها الرواية:

قضية محورية  تثيرها الرواية، قضية الجندر، ونظرة المجتمع العربي للرجل والمرأة، في ظل ممارسة ذكورية، تفرض معايير جامدة تؤطر دور كل من النساء والرجال، ضمن صور نمطية لا يجب الخروج عنها. 

الرواية سلطت الضوء على قضية مكوث الرجل في البيت، وكيف أن ذلك يشكل وصمة عار.

تكشف الرواية كيف أن الرجل أيضا يتعرض لممارسات ذكورية، ولا يتعلق الأمر بالمرأة فحسب.

فالرجل في المجتمعات العربية، أيضا يحاكم ويحاسب، وتحدد خياراته وتوجهاته، ويتم قمع أفكاره المغايرة، فيجد نفسه في صدد مواجهة صرح من الموروثات الخاطئة التي يصعب التخلي عنها. 

أيضا أثارت الرواية بعض المواضيع العميقة في المجتمع على غرار الزواج، الخيانة، بيت العائلة، الفساد، عمل المرأة، الجنس وغيرها من القضايا التي أثير ضمن خط واحد ألا وهو (الجندر).

هل كان تناول القضايا عميقا بما يكفي؟!

لا يمكن أن ننكر أن القضية التي تتناولها الرواية مهمة، وأنها مسألة تجب مراجعتها ثقافيا عبر الأدب والكتابة، وحتى وإن كانت قضية مكررة في الرواية العربية - على اختلاف الحبكة الدرامية التي تم تناولها من خلالها - فإنها لا تزال تحتاج للحديث عنها والكتابة حولها، حيث لا يزال الإشكال مطروحا، ولا تزال قضية الذكورة مستمرة في مجتمعاتنا. 

لكن، هنا يبدو النعاس واصفا، ساردا مفكك للأزمة، دون أن يحلل أبعادها كما ينبغي. في محطات أخرى، يظهر وكأنه يروي قصصا سطحية، يتقاذفها ضمن سياق الحكي دون مراجعة، والمراجعة هنا كتابة أخرى، وإثارة للاستفهامات، وتشخيص للأزمة وبحث عن إجابات وحلول جذرية، أو على الأقل وقوف عميق وجوهري.

كما أن نهاية الرواية جاءت فقيرة مخلة بالإيقاع الذي سار عليه الروائي منذ البداية، تداعى شيء ما، وأبقى على انطباع مشوش ومبتور.

لغة الرواية:

لا يمكن إنكار قدرة الكاتب الليبي على  اعتماد لغة سليمة ومتماسكة، إلاّ أنني لا أخفي شعوري بالملل في الكثير من المواضع، حيث كان يطيل الوصف والحشو دون أن يخدم ذلك النص، بل كان يجعله ثقيلا مملا. 

بعض التفاصيل بدت وكأنه يقحمها عنوة، لم تحمل عمقا جوهريا، ولم تضف إضافات ضرورية، بدت وكأنها توابل زائدة شوشت على فعل الحكي، وأخلت بالايقاع. 

برغم أن الكاتب أجاد رسم ملامح الشخصية عبر لغة ذكية استطاع عبرها بعث الحياة والحركية لشخوص العمل، إلا أن اعتماده على الحديث بلسان ميلاد فقط أفقد الشخصيات حيويتها وحركيتها. قد يكون (محمد النعاس) تعمد ذلك، من أجل تسليط الضوء على القضية أكثر بالمحاكاة في العمل الروائي نفسه، فجعله المعني بالسرد لأنه موازاة وذلك معني بكافة الأحكام المسلطة عليه. 

اخترقت اللغة في رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" الكثير من الطابوهات، لكنها وفي كثير من الأحيان لم تفعل ذلك لدلالات تخدم القضية، حتى اعتقدت أن الكاتب تقصد ذلك لأهداف تجارية أو تسويقية! 

هل تستحق رواية خبز على طاولة الخال ميلاد البوكر؟

لا يمكنني أن أدعي قدرتي على الحكم على العمل الأدبي، ومدى استحقاقه للجائزة الدولية للرواية (البوكر)، لكن سأعبر عن منظور شخصي يتعلق بأفق توقعي للعمل.

ألا يتم اعتماد أفق توقع القارئ في الحكم على العمل الأدبي؟ إذن سأتناول امتداد هذا الأفق، ومدى تلاحمه والنص.

بداية، لم أكن لأعرف عن الرواية لولا فوزها بجائزة البوكر، هذا ما عليه الأمر اليوم، غالبا يتم التعرف على الكتب وأصحابها نظير فوزهم بالجوائز، فالتتويج ما يجعلها تنتشر. 

قبل قراءتي للعمل توقعت جملة من التوقعات، الطريف في الأمر أن بعضا من توقعاتي أصابت على نحو ساخر.

كأن توقعت أن الرواية الحائزة على البوكر حتما تعالج قضية نسوية أو قضية رائجة في الوسط الثقافي، وكان ذلك قريبا. 

لم أقول هذا؟

لست أرغب في توجيه اتهام، أو تصنيف الأدب، لكن مؤخرا، يتجه الأدب نحو معالجة القضايا الأكثر اثارة للجدل والأكثر تصدرا، بحسب ما تروج إليه الدوائر الثقافية على ساحات التواصل الاجتماعي. 

وعليه، بتنا نقرأ أعمالا كثيرة حول الجنس وقضايا الجندر وأزمة الهوية والمثلية وغيرها من الطابوهات.

برغم أن هذا قد يعد طبيعيا في الأدب، لكن حين يتم ذلك على نحو موجه يتجه ليكون مبتذلا، خاصة وإن لم تتم معالجته على نحو عميق وحقيقي. 

بالنسبة لرواية خبز على طاولة الخال ميلاد، وجدت الطرح مهما لكن ناقصا، وبرغم إبداع الكاتب، إلا أنه لم يوفق في جعل هذا العمل يليق بجائزة دولية، مؤخرا أغلب الأعمال الحائزة على الجائزة تتجه للنسيان، ولم توفق رواية لأن تخلد نفسها بين الروايات الأكثر تأثيرا في تاريخ الأدب، ويرجع ذلك لتناول هذه الأعمال للقضايا الرائجة، دون طرح فلسفي يحيل نحو أبعاد انسانية ممتدة. 

هل تستحق؟ ربما، لكن لا مجددا تخيب البوكر ظني، خيبة لا تتعلق بانزياح جمالي وانكسار أفق التوقع على نحو يرتقي باستمرارية التأويل، بل بخيبة تنبثق عن عمل لم يلبي العطش بما يكفي، لكن هذا لا يمنع من كون الرواية تستحق القراءة، بل وإعادة القراءة علّ نصا آخر يولد من رحمها ! 

حول الكاتب .. 

محمد النعاس، كاتب ليبي من مواليد عام 1991، كتب العديد من المحاولات الشعرية والنثرية، غير أن رواية (خبز على طاولة الخال ميلاد) أول عمل روائي له. 

يعد النعاس أصغر فائز عربي بالجائزة الدولية للرواية.