كتاب وفنانون عانوا من أمراض نفسية:

يرى "ارسطو" أن الفن تطهير للنفس، بينما يؤكد سيغموند فرويد في نظريته النفسية على أن الأدب والفن انعكاس للنفس وما تعانيه من اضطرابات يخرجها على هيئة أعمال فنية. أعمال تترجم الصراعات الداخلية وتحولها شاهدا جماليا على بواطن النفس البشرية.

وبالفعل، لقد عاني العديد من الكتاب والفنانين من أمراض نفسية وعرف عنهم اضطراباتهم حتى باتت وصفا يلازم آثارهم الابداعية، وشخوصهم الفنية إن صح القول، على غرار فرانز كافكا وفان جوخ وغيرهما.

في هذا المقال، سنحاول استعراض أهم الفنانين والكتاب الذين عانوا من أمراض نفسية واضطرابات عقلية وأبرز انتاجاتهم الفنية، كما سنحاول عرض أهم الأعمال الفنية والأدبية التي تحدثت عن الأمراض العقلية وقامت بوصفها أو إيرادها ضمن نصوص إبداعية أو لوحات فنية.

أولا:/ الفنانون

لا يكاد يخلو الفن من قصص جوهرية تحمل رؤية انسانية تعالج قضايا تمس مشاعر الانسان ومعاناته وتجربته. 

وكثير من الفنانين لم يجدوا من سبيل غير الفن ليرووا تجاربهم ومعاناتهم النفسية، في لوحاتهم ومنحوتاتهم، إذ تعد صرخة جمالية تجسد ما عجزوا عن البوح به ومن أهم هؤلاء الفنانون : 

  • فان جوخ: رسّام هولندي، أحد أشهر الرسامين في العالم، لا تزال أعماله ولوحاته مصدر إلهام، وتتداول بشكل قياسي. 

ويعد فنسنت فان جوخ من بين الفنانين الذين أثاروا التساؤل حول علاقة الإبداع بالمرض النفسي، وذلك بسبب معاناته الشديدة مع المرض، والتي رغم ذلك لم تمنع نبوغه وإبداعاته.

عانى فان جوخ من اضطراب ثنائي القطب، والاكتئاب، ما تسبب في قضائه أزيد من خمسة عشر عاما في المصحة العقلية. رسم خلالها أزيد من ألف وخمسمائة لوحة.

كثير من الدارسين والأطباء، تناولوا أعمال فان جوخ من زاوية التحليل النفسي، خاصة تلك التي أبدعها في أواخر أيامه قبل انتحاره، والتي فسرها معظمهم بانعكاس طبيعة جوخ النفسية المضطربة ومعاناته مع المرض. 

  • فريدا كاهلو: فنانة مكسيكية، عدت رمزاً أيقونيا في عالم الفن، والنضال السياسي والنسوي، واشتهرت بلوحات البورتريه، وكذلك بلوحة تمثل ملامحها وزيها الفلكلوري، وحاجبيها المعقودتين. 

عانت فريدا كاهلوا من مطبات صحية كثيرة، كانت سببا في أزمات نفسية عانت منها فريدا، حتى آخر أيامها. 

حيث تعرضت لشلل الأطفال، الذي أقعدها قرابة السنة طريحة الفراش، مع التسبب لها في إعاقة في قدمها. 

تعرضت مرة أخرى لحادث مرور، تسبب في دخول سيخ حديدي في رجلها، الأمر الذي أقعدها مجددا طريحة الفراش. ولقد وجدت في الفن ضالتها، وأبدعت أعمالا عالمية، أتاحت لها مواكبة أعمال فنانين عالميين على غرار بابلو بيكاسو. 

تعرضت فريدا أيضا للخيانات الزوجية الكثيرة، ولحالات إجهاض، الأمر الذي جعلها تعيش حالة اكتئاب معقدة أبرزتها من خلال كتاباتها ورسائلها لزوجها، التي عرّت فيها حالة الحزن والأسى التي كانت تعتريها. 

وقد ربط الكثيرون لوحاتها الفنية بحالتها النفسية، وكيف أن الفن جعلها تعبّر عن دواخلها والتخبطات التي كانت تعاني منها. 

  • بابلو بيكاسو: عانى بابلو بيكاسو من الاكتئاب أيضا، وذلك بعد انتحار أحد أصدقائه، وقد برع في رسومات عبقرية عبرت عن فترة اكتئابه. 

تميزت لوحاته تلك بطغيان اللون الأزرق، وبرودة الملامح، وعبوسها، حتى أصبحت تلك الفترة تمثل الحزن والكآبة، وقد عرفت بالفترة الزرقاء.

وقد عد علماء النفس، بابلو بيكاسو أحد الشواهد على علاقة الحزن والاكتئاب واضطرابات النفس، بالقدرة على الإبداع والخلق على نحو استثنائي.

  • بيتهوفن: ويعد أحد أشهر الملحنين في التاريخ، عرف بـسيمفونياته الشهيرة، على غرار سوناتا ضوء القمر، والسوناتا العاطفية وسوناتا الكمان.

وكما هو معروف عن بيتهوفن إصابته بالصمم، وقد تسبب له ذلك في دخول حالة اكتئاب شديدة.

لأن ذلك شكل تحديا عظيما له، خاصة وأن شغفه كله يتعلق بالموسيقى وتأليف القطع الموسيقية.

إضافة إلى حالات الاكتئاب التي كان يعاني منها بيتهوفن، يعتقد أيضا أنه عانى من اضطراب ثنائي القطب.

ولقد تحدث الكثيرون حول نوبات بيتهوفن الحادة، والتي كانت تبلغ حدا يصعب السيطرة عليه، وكان خلالها يبدع مقطوعات فذة يشهد لها العالم بأسره، ثم يستغرق بعدها وقتا طويلا في الصمت والعزلة. 

فهل كانت مزاجيته، واضطرابه النفسي سببا في العبقرية أم متنفسا لمشاعره؟! 

  • روبرت شومان: هذا الموسيقي الذي عانى من نوبات الفصام والجنون، حتى انتهى به الأمر في مصحة عقلية، ثم الدخول في حالة اكتئاب شديد والامتناع عن الأكل حتى الموت.

هذا الفنان الموسيقي استطاع أن يصنع تاريخا في الفن، عبر تأليفه لمقطوعات تاريخية. 

ويعد شومان من بين الفنانين الذين تم تداول أسمائهم في خضم الحديث عن العلاقة بين المرض النفسي والإبداع الفني، إذ عرفت حياته تقلبات نفسية شديدة ونوبات حادة كانت تنتهي في كل مرة بمعزوفة فنية استثنائية.

ثانيا:/ الكتاب

  • فرانز كافكا: أحد رموز الأدب العبثي والغرائبي، فرانز كافكا أيقونة أدبية، خلف أعمالا عظيمة تربعت على أكثر المؤلفات شهرة وعدت من بين الأعمال الخالدة في تاريخ الأدب.

هذا الكاتب عرف عنه حياته البائسة ومعاناته مع القلق والمرض النفسي والاكتئاب الذي استمر معه حتى وفاته.

إن حالة اليأس والعدمية التي عاشها كافكا، تجلت من خلال أعماله، حتى قيل أن كتاباته نفسها تحرّض على الجنون!

  • فرجينا وولف: إحدى أشهر الكاتبات في العالم، وصاحبة أعمال روائية صنفت من بين الأشهر والأكثر تأثيرا حول العالم.

تمثل فرجينيا وولف شاهدا تاريخيا على إبداع الأشخاص المرضى بالاكتئاب.

حيث ومنذ طفولتها، عانت فرجينا وولف من نوبات اكتئاب حادة، وصدمات نفسية، جعلتها تعرف ميولات انتحارية متكررة. إلى أن اختارت فعلا الاستسلام أخيرا والانتحار بتعبئة جيوبها بالحجارة والمشي في النهر. 

مشهد جسدته الفنانة الأسترالية نيكول كيدمان في فيلم the hours والذي جسد معاناة الكاتبة الانجليزية. 

إن كتابات وولف فيها من مشاهد الحزن وتفاصيل الألم ما يعجز تلخيصه أو اختصاره، لقد اختارت الأدب لتروي تفاصيل عميقة من فصول حياتها.

  • سيلفيا بلاث: إحدى أشهر الكاتبات النسويات، لا تختلف حياتها مع الاكتئاب كثيرا عما عانته فرجينيا وولف، إذ كان القلق ملازما تفاصيل حياتها، كما أنها كثيرا ما تناولت مشهدية الموت والعزلة والهروب، وكل ذلك نتيجة معاناتها المستمرة مع المرض النفسي وحالات الذهان وهوس الانتحار.

إلا أن كل هذا لم يجعل منها سوى إحدى أساطير الأدب والفكر النسوي في العالم، ولا تزال أعمالها تدرس كمنجزات أدبية خالدة.

  • إرنست همنغواي: عانى هذا الكاتب الأمريكي صاحب رائعته العجوز والبحر، والحائز على جائزة نوبل للآداب. عُرف بمزاجه المتقلب، وحالته النفسية المضطربة، اضطر خلالها للعلاج بالصدمات الكهربائية التي لم تفعل شيئا سوى مضاعفة معاناته. 

انتهى الأمر به إلى الانتحار، هذا الكاتب الذي يشهد الجميع له بالتفرد.

عدت أعماله من بين الأعمال الأكثر تأثيرا على المجتمع الأمريكي. الأمر الذي أثار تساؤلات حول مدى العلاقة التي بين حالته النفسية وعبقريته.

  • إدغار آلان بو: أحد أشهر الكتاب الذين عرف عنهم معاناتهم مع المرض النفسي، حيث عانى إدغار بو كاتب قصص الرعب الأشهر في العالم، من نوبات قلق وضغط، كما أدمن الكحول والممنوعات،الأمر الذي تسبب في تفاقم وضعه الصحي والتسبب في وفاته في سن مبكرة وهو لم يتم بعد عامه الأربعين.

رغم ذلك، برز ادغار آلان بو في الساحة الأدبية، بل والفكرية أيضا، حيث استطاع أن يخلف إرثا يشهد له بالتميز.

  • لوي تولستوي: كاتب وناقد روسي، عانى من اكتئاب شديد تجلت عبر قصصه وأعماله الروائية. 

كان غالبا ما يميل إلى العزلة والصمت بعد الفراغ من الكتابة، قبل أن يختار التسول في الشارع في أواخر أيامه. 

عرف عن تولستوي شعوره الدائم بالعدمية والفناء الأبدي الأمر الذي كان يبعث فيه تصورات كئيبة وصامتة حول الجدوى من الوجود. 

رغم هذا، صنفت أعماله على أنها آثار أدبية خالدة، ولا تزال تدرس حتى يومنا هذا وتلهم ملايين القراء والنقاد والكتاب على حد سواء.

أعمال فنية تناولت المرض النفسي:

  • "The Bell Jar" لـِـ سيلفيا بلاث: وهي رواية تتناول قصة امرأة تعاني من الذهان، وتحمي تفاصيل الاكتئاب خلال الحياة اليومية. 

ويبدُو أن سيلفيا بلاث تروي تجربتها الشخصية، أو تحكي على لسان هذه البطلة الكثير من معاناتها، إذ من المعروف عن بلاث طرقها لمواضيع الآلام النفسية وأمراض العقل في كتاباتها حتى عدت من بين أشهر وأعذب من صوروا تفاصيل المرض النفسي من خلال اللغة الشعرية.

  • "One Flew Over the Cuckoo's Nest" لكين كيزي: عمل أدبي عدّ من أشهر الانتاجات الأدبية التي صورت معاناة مرضى الاكتئاب. 

تدور أحداث هذه الرواية حول رجل يسعى للتمرد على قوانين المستشفى النفسي الذي أرغم على دخوله بعد معاناته من الاكتئاب. 

تصف الرواية تلك المشاعر التي يعيشها المرضى النفسيون خاصة بعد الشعور بالعزلة من قبل الآخرين، وكيف أن المؤسسة قد تتسبب في تزويد هذه المعاناة بعد معاملتهم بصرامة على نحو مفرط.

  • "The Catcher in the Rye" لجي. دي. سالنجر: رواية حول الاكتئاب، كيف أنه جزء صامت من حياة المرء. 

تجيب هذه الرواية على أسئلة من قبيل: كيف يشعر مريض الاكتئاب؟ كيف يتعامل مع مشكلاته؟ 

يبرز العمل المقاومة اليومية التي يعيشها المريض النفسي من خلال شخصية البطل وهو شاب يعاني من القلق والاضطراب. 

  • "Prozac Nation" لإليزابيث وورتزل: وهو رواية سيرية تناولت من خلالها الكاتبة حياتها مع مرض الاكتئاب، حيث مرت بأزمات نفسية شديدة اضطرتها لمتابعة العلاج. 

في العمل سرد عميق للتفاصيل، حيث مكنها معايشتها للمرض من إبراز العديد من الرؤى من زاوية مختلفة، وقد عدّ هذا العمل الإبداعي وصفا صادقا و تحليلا دقيقا لمرض الاكتئاب وحالة الذهان 

  • "The Noonday Demon: An Atlas of Depression" لأندرو سولومون: كتاب آخر يحكي تجربة الكاتب الحقيقية مع الاكتئاب، وكيف استطاع التعايش معه، متطرقا للحظات المعقدة من حياته، والأوقات الصعبة، وكيف أن الاكتئاب يلتهم قدرتك على الاستمتاع بما حولك. 

كما ينصح الكاتب في هذا العمل السبل التي تساعد على تخطيه. 

قدرة السرد العميقة جعلت من الكتاب مؤلفا سيريا يأخذ طابع الرواية. 

إضافة إلى هذه المقترحات، نرشح لكم كتاب: قبل أن يصبحوا مجانين. لجيفري مايرز، و يستعرض فيه الكاتب حياة مجموعة هامة من الفنانين والأدباء الذين عانوا من الأمراض النفسية والعقلية، وتجاربهم الشخصية في التعامل مع الاكتئاب، وكيف أثرت حالتهم النفسية على أعمالهم وإبداعاتهم.

 هل فعلا الأمراض النفسية سبب في عبقرية الفن ؟!

برغم أن العالم اليوم قد تخطى نظريات التحليل النفسي للفن بشكل عام، ولم تعد تلك العلاقة المعهودة بينهما بذات الصورة، في ظل النظريات النقدية الثقافية، إلا أنه لا يمكن إنكار بأي شكل أن ثمة هناك علاقة خفية، لا يمكن حسم طبيعتها، أو التكهن بمدى تشكلها، لكنها تتجلى على نحو صريح، من خلال الأعمال الإبداعية.

يُقال، الفن لغة من لا قدرة لهم على البوح، ومن هنا تتبدى طاقة خفية وغير عادية، تعتري هؤلاء الفنانين "العباقرة" وتجعلهم يمارسون شكلا من أشكال التحرر، لكن ما الذي يؤثر على الآخر؟! هل الاكتئاب هو ما يجعل الفنانين أصحاب موهبة استثنائية، أم أن الفن ما يتسبب لهؤلاء بحالة الاغتراب!

نعم، تشير بعض الدراسات أن الفن يجرّد أصحابه من حياتهم الطبيعية ويتسبب لهم في حالة تشبه الغرق أو الاغتراب، الأمر الذي يجعلهم كثيرو التفكير والحساسية تجاه الأمور، لأن الفن يتطلب مزاجا محددا، ووقتا وتفرغا، وهي شروط تتسبب في حالة الضغط والعبثية التي غالبا ما تلازم الفنانين.

فالانتاجات الفنية لا تكون دائما حالة تفريغ للكبت كما يصوره البعض، والدليل أن معظم الفنانين يعانون من الاكتئاب بعد فراغهم من الأعمال الفنية، وذلك لكونها تستنفذ قدرتهم وطاقتهم ومجهوداتهم. إذ يتعلق الأمر أكثر بحالة الاستنزاف التي يتسبب فيها الفن لمثل هؤلاء.

وجهة نظر أخرى ترى أن الفنانون عموما يرغبون في تغيير هذا العالم وفق رؤى حالمة وثائرة، الأمر الذي ينتهي بهم إلى الانفصال عن الواقع ومن ثم العزلة أو حالة الصدمة والاكتئاب، لأن الحرية التي يمنحها الفن لأصحابه لا يستوعبها الواقع المقيد بالظروف الخاصة والمحبطة في كثير من الأحيان.

في الختام، نكتفي بترك السؤال مفتوحا، والاعتقاد قائما بالاحتمالات جميعها، مادام العلم لم يثبت شيئا ثابتا، وما دام التاريخ لا يزال يجود بقصص متضاربة تجعل حسم هذا الأمر غير ممكن، لكن رغم ذلك وجب الاعتراف بأن كل هؤلاء الفنانين بعثوا من معاناتهم أثرا جماليا يستحق الإشادة.

ماذا عنكم؟ ماذا تعتقدون؟ أيهم أسبق المرض أم العبقرية أم أن الفن حالة لا تكتمل إلا باجتماعهما معا؟!